شهدت مصر أخيرًا صدور القانون رقم 164 لسنة 2025 المعروف إعلاميًا باسم قانون الإيجار الجديد. ويأتي هذا القانون بعد عقود طويلة من الجمود التشريعي الذي حكم العلاقات الإيجارية القديمة؛ إذ ظلّت عقود الإيجار القديمة سارية بشروط مجحفة للمالكين وبإيجارات زهيدة منذ منتصف القرن العشرين. لم يكن تأثير هذه الأزمة مقتصرًا على الجوانب الاجتماعية والقانونية فحسب، بل امتد إلى الاقتصاد المصري بالكامل عبر تأثيرها على تكلفة المعيشة والتضخم وخطط التنمية العمرانية القانون الجديد يَعِدُ بإعادة التوازن إلى العلاقة بين المالك والمستأجر، وتحرير السوق العقارية من القيود القديمة، مما أثار اهتمامًا واسعًا بين المطورين العقاريين والجمهور العام على حدٍ سواء. في هذه المقالة، سنستعرض بصورة قانونية–اقتصادية مبسطة أثر قانون الإيجار الجديد رقم 164 لسنة 2025 على التطوير العقاري في مصر، مع التركيز على حركة السوق والاستثمارات وفرص تنشيط الأصول العقارية القديمة، إلى جانب إبراز أهم الفرص والتحديات التي يحملها هذا القانون.
الأثر الاقتصادي على السوق العقارية
من منظور اقتصادي، يمثل هذا القانون تحولًا استراتيجيًا نحو تحرير سوق العقارات في مصر فمن المتوقع أن يؤدي إلى زيادة المعروض العقاري نتيجة إنهاء عقود الإيجار القديمة التي ظلت مجمدة لعقود. تشير التقديرات إلى وجود ما بين 1.8 و2.4 مليون وحدة سكنية خاضعة لقوانين الإيجار القديم في مصر، ينتفع بها نحو 8 إلى 10 ملايين مواطن، مع ملاحظة أن حوالي 30% من تلك الوحدات كانت مغلقة وغير مستغلة؛ بل إن قيمة الإيجار الشهري في كثير من الحالات كانت بالكاد تتراوح بين 10 إلى 50 جنيهًا – مبالغ رمزية لم تكن تغطي حتى تكاليف صيانة العقار. إنهاء هذه العقود عبر فترة انتقالية محددة سيُحرّر هذه الوحدات المجمدة ويعيد دمجها في دورة النشاط العقاري، مما يزيد من حجم العرض العقاري ويخلق حركة في السوق هذا المعروض الإضافي قد يُسهم في تخفيف حدة نقص الوحدات المتاحة، خاصة في المناطق الحضرية القديمة، ويمنح المطورين فرصة للاستثمار في مبانٍ كانت خارج نطاق التداول سابقًا.
علاوة على ذلك، رفع القيمة الإيجارية تدريجيًا وفقًا لمناطق العقار – وهي إحدى آليات القانون الجديد – سيؤدي إلى تصحيح تشوهات الأسعار في السوق. فعلى مدار عقود، خلقت الإيجارات المتجمدة فجوة هائلة بين القيمة السوقية للعقارات وقيمة إيجاراتها القانونية. الآن، مع زيادات فورية وارتفاعات سنوية متدرجة، ستقترب الإيجارات من مستوى القيمة الحقيقية5 الأمر الذي يرفع دخل الملاك بشكل منصف ويسمح لهم بالإنفاق على عقاراتهم وصيانتها. صحيح أن هذه الزيادات قد تفرض ضغوطًا تضخمية مؤقتة على الاقتصاد المصري نتيجة ارتفاع تكلفة السكن لبعض الفئات، إلا أنها في المجمل تُعَد خطوة لإعادة هيكلة السوق بشكل صحي على المدى الطويل. ومع مرور الوقت، قد يؤدي تحرير عقود الإيجار إلى استقرار أكبر في سوق العقارات، حيث ترتكز الأسعار على آليات السوق الحرة بدلًا من التشوهات المفروضة بقوانين قديمة. كما يطمئن هذا التوجه المستثمرين بأن البيئة التنظيمية أصبحت أكثر عدلًا واستقرارًا، مما قد يشجع على تدفق استثمارات جديدة إلى القطاع العقاري.
الأثر القانوني على علاقة المالك والمستأجر
يعيد القانون الجديد صياغة البنية القانونية للعلاقة بين المالك والمستأجر بشكل جذري. بعد أن كانت كفة الحماية تميل بصورة شبه كاملة لصالح المستأجر بموجب قوانين الإيجار القديمة (مثل قانوني 49 لسنة 1977 و136 لسنة 1981)، يسعى قانون 164 لسنة 2025 إلى تحقيق توازن عادل يعكس الواقع الاقتصادي والاجتماعي الراهن فمن الناحية القانونية البحتة، تنقضي عقود الإيجار القديمة بانتهاء فترة انتقالية محددة وضعها المشرّع – تمتد لعدة سنوات – ثم تعود العين المؤجرة إلى مالكها مع تمكينه من التصرف فيها بحرية هذا يعني أن مفهوم ”عقد الإيجار الأبدي“ الذي كان سائدًا قد انتهى فعليًا؛ فالعلاقة الإيجارية أصبحت محددة المدة بموجب القانون الجديد وليست قابلة للامتداد التلقائي جيلاً بعد جيل كما في السابق. في المقابل، يراعي القانون جانب المستأجر من خلال منحه مهلة كافية لتسوية أوضاعه، وكذلك إلزام الدولة بتوفير وحدة سكنية بديلة لكل مستأجر أصلي قبل تنفيذ الإخلاء النهائي
بهذا يضمن المشرّع عدم ترك أي مواطن دون مأوى، ويؤكد البعد الاجتماعي للقانون عبر نص صريح يمنع إخلاء السكان قبل توفير مسكن بديل ملائم من اختيارهم وفي وقت مناسب قبل انتهاء الفترة الانتقالية
ومن أهم ما يميز القانون أيضًا أنه وضع ضوابط واضحة لحالات الإخلاء، مانحًا المالك حق استرداد وحدته المؤجرة فورًا في بعض الحالات الاستثنائية. على سبيل المثال، إذا ثبت أن الوحدة مغلقة وغير مستغلة لمدة طويلة (سنة كاملة دون مبرر) يحق للمالك طلب الإخلاء الفوري كذلك الأمر إذا انتهت المدة المتفق عليها للعقد (بعد السنوات الانتقالية المحددة) ولم يُبرم عقد جديد، يصبح للمؤجر حق استعادة العين المؤجرة فورًا إضافة إلى ذلك، إذا كان المستأجر أو أحد المستفيدين من عقد الإيجار يمتلك بالفعل مسكنًا آخر مناسبًا يقيم فيه، فإن القانون يلزمه بإخلاء الوحدة القديمة لتمكين المالك من استعادتها هذه الأحكام القانونية تعيد رسم حدود الالتزامات والحقوق بشكل أكثر توازنًا: فالملّاك استعادوا حقهم المشروع في ملكية منافع عقاراتهم وعدم بقائها حبيسة عقود أبدية، وفي الوقت ذاته حصل المستأجرون على حماية خلال فترة الانتقال وضمانات بعدم التشريد. يُذكر أيضًا أن القانون رافقه تعديل تشريعي مكمل (القانون 165 لسنة 2025) يهدف إلى سد أي ثغرات في عقود الإيجار المدني الحديثة، بما يضمن أن العقود الجديدة بعد انتهاء حقبة الإيجار القديم ستكون خاضعة لأحكام مدنية واضحة دون التباس. باختصار، يمكن القول إن العلاقة التعاقدية بين المالك والمستأجر انتقلت بهذا القانون من علاقة جامدة تحكمها قوانين استثنائية إلى علاقة تعاقدية مرنة تقوم على التراضي الحر ضمن إطار القانون المدني العام، مما يقوي مبدأ حرية التعاقد ويزيل كثيرًا من أسباب النزاع المزمنة التي طالما اكتظت بها المحاكم.
فرص التطوير العقاري الناتجة عن القانون
يفتح قانون الإيجار الجديد آفاقًا واسعة لـتنشيط التطوير العقاري في مصر، إذ يخلق فرصًا استثمارية غير مسبوقة في قطاع كان يعاني من الركود في أجزاء منه. أحد أبرز الآثار الإيجابية المباشرة هو إمكانية إعادة توظيف الأصول العقارية القديمة وإحيائها من جديد. عقارات عديدة في مواقع متميزة ظلت لعشرات السنين عاجزة عن تحقيق إمكاناتها الكاملة – سواء بسبب تدني العوائد أو القيود القانونية على التصرف – باتت الآن قاب قوسين أو أدنى من التحرر. استعادة الملاك لحقوقهم في هذه الوحدات بعد انتهاء العقود القديمة يعني أنهم سيكونون أكثر استعدادًا لضخ استثمارات في صيانتها أو تطويرها. وقد أكّد محافظ القاهرة، الدكتور إبراهيم صابر، أن تعديل قانون الإيجار القديم كان خطوة ضرورية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من المباني القديمة قبل فوات الأوان فقد أدى إهمال الصيانة لعقود طويلة – نتيجة ضعف عائدات الإيجار وامتناع المستأجرين والمالكين معًا عن الإنفاق – إلى تصدع وانهيار عدد من العقارات، خاصة في قلب القاهرة الآن ومع تحسن العوائد المتوقعة ووضوح أفق انتهاء العقود، سيكون لدى المالكين حافز قوي لصيانة مبانيهم وترميمها لضمان سلامتها وزيادة قيمتها السوقية. وهذا بدوره يفتح الباب أمام شركات المقاولات وشركات التطوير المتخصصة في تجديد المباني التاريخية للدخول والمساهمة في إعادة إحياء وسط المدن القديمة والمحافظة على التراث المعماري، مع تحقيق أرباح مجزية. إنها فرصة لتحويل التهديد الذي كانت تشكله المباني الآيلة للسقوط إلى فرصة استثمارية عبر ترميمها أو إعادة بنائها بمشاريع حديثة.
من زاوية أخرى، تحرير الوحدات السكنية والتجارية المجمدة سيزيد من حركة التداول العقاري. الكثير من الملاك الذين كانوا عاجزين عن بيع أو استثمار عقاراتهم القديمة بسبب عقود الإيجار الممتدة، قد يفكرون الآن في بيع تلك العقارات أو إعادة تطويرها بالتعاون مع مطورين عقاريين. هذا يعني زيادة في الصفقات العقارية وتنشيط سوق البيع والشراء في القطاع، خاصة في الأحياء العريقة التي تحررت وحداتها. وقد أشار خبراء في غرفة التطوير العقاري إلى أن القانون الجديد سيسهم في تحريك مئات الآلاف من الوحدات السكنية المجمّدة، مما يزيد المعروض ويحفّز الاستثمار في السوق العقارية والمقصود هنا ليس فقط المعروض من الشقق السكنية، بل حتى المحلات التجارية والوحدات الإدارية القديمة التي كانت تخضع لعقود إيجار قديم – تحريرها سيتيح إعادة استغلالها بمشاريع تجارية حديثة أو مكاتب عصرية، مما يعزز نشاط القطاع التجاري والخدمي في تلك المناطق.
جدير بالذكر أيضًا أن التزام الدولة بتوفير مساكن بديلة للمستأجرين المتضررين سيفضي إلى مشروعات إسكان جديدة. فالحكومة قد تضطر لإنشاء أو تخصيص عدد كبير من الوحدات السكنية على مدى السنوات المقبلة لتلبية الطلب على المساكن البديلة ورغم أن هذا الأمر يمثل عبئًا على الدولة (سنناقش ذلك لاحقًا)، لكنه في الوقت ذاته فرصة للشركات العقارية والمطورين للمشاركة في هذه المشروعات السكنية، سواء عبر المقاولات أو الشراكات مع الحكومة. أي أن عجلة البناء لن تقتصر على تعويض المساكن القديمة فحسب، بل يمكن أن تمتد لتشمل توسعة المدن الجديدة على أطراف القاهرة وغيرها، ما يخلق فرصًا استثمارية في تلك المدن ويحقق هدف الدولة في توزيع الكثافة السكانية بشكل أفضل. ومع انتقال بعض السكان إلى المدن الجديدة في إطار توفير البدائل، قد تنشط تلك المجتمعات العمرانية الناشئة تجاريًا وخدميًا نتيجة زيادة الطلب على الخدمات والمرافق هناك.
باختصار، يوفر القانون الجديد بيئة مواتية للمطورين العقاريين ليخططوا لمشاريع طموحة: من ترميم الأصول القديمة وتحويلها إلى مبانٍ حديثة أو فنادق أو مقار لشركات، إلى بناء وحدات سكنية جديدة تستقطب من سيترك مواقع الإيجار القديم. وكل ذلك في ظل إطار قانوني أكثر وضوحًا واستقرارًا يحمي حقوق الملكية ويشجع رؤوس الأموال المحلية والأجنبية على دخول السوق دون الخوف من قيود تأميمية على المنافع. إنها بالفعل فرصة تاريخية لإعادة رسم خريطة الاستثمار العقاري في مصر، إذ لم يعد وسط القاهرة وأحيائها القديمة منطقة محظورة على التطوير، بل ساحة واعدة تنتظر من يطورها.
التحديات المحتملة في التطبيق
رغم الفرص الكبيرة التي يحملها القانون، لا يخلو تطبيقه من التحديات التي ينبغي وضعها في الحسبان لضمان تحقيق الأهداف المرجوة دون آثار جانبية جسيمة. أول تلك التحديات اجتماعي بامتياز: هناك تخوف واسع لدى بعض الأوساط من حدوث حالات إخلاء جماعي بعد انقضاء الفترات الانتقالية، وخاصة في الأحياء الشعبية ومناطق وسط البلد حيث تتركز عقود الإيجار القديم
. فعلى الرغم من ضمانات القانون بتوفير سكن بديل وعدم وقوع أي حالة تشريد، يبقى القلق الإنساني مشروعًا بشأن مصير الأسر محدودة الدخل التي اعتادت لسنوات طويلة على إيجارات زهيدة وقد لا تتمكن من تحمل تكاليف السكن الجديدة بسهولة. التحدي هنا يكمن في كيفية تحقيق الانتقال السلس لهذه الشريحة السكانية إلى وضع جديد دون اهتزاز استقرارهم الاجتماعي. ويتفرع عن ذلك تحدٍ آخر يتمثل في ارتفاع تكلفة الإيجار على نطاق واسع من المواطنين عند الوصول إلى نهاية الفترة الانتقالية
؛ فشريحة كبيرة من المستأجرين القدامى هم من أصحاب الدخول المحدودة أو المتوسطة، وسيجدون أنفسهم أمام واقع إيجاري مختلف تمامًا. هذا الأمر قد يفاقم الأعباء المعيشية على بعض الأسر ويسهم في رفع معدل التضخم في المدى القصير
إذا لم تُتخذ تدابير موازنة مناسبة، كتوفير دعم مادي أو خيارات تمويل للمستأجرين المتأثرين.
التحدي الثاني اقتصادي–تنموي يواجه الحكومة بشكل رئيسي: توفير البدائل السكنية بالكم والنوع المطلوب. التزمت الدولة بألا يُطرد مستأجر أصلي من مسكنه القديم إلا بعد تأمين مسكن بديل ملائم له، وهذا التزام حميد لكنه عال التكلفة. تُشير بعض التقديرات إلى أن الحكومة قد تضطر لتوفير ما يقارب مليون وحدة سكنية جديدة لتعويض المساكن التي سيتم إخلاؤها، وهذا قد يتطلب استثمارات تتجاوز 200 مليار جنيه
على امتداد فترة السنوات الانتقالية. في ظل ما تعانيه الموازنة العامة حاليًا من ضغوط، يمثل هذا عبئًا ماليًا كبيرًا يتطلب تخطيطًا محكمًا وتمويلًا مستدامًا. لن يقتصر الأمر على بناء الوحدات، بل يشمل أيضًا إنشاء مرافق وخدمات في أماكن تلك الوحدات (خاصة إن كانت في مدن جديدة) لضمان بيئة عمرانية متكاملة لمن سينتقل إليها
. وبالتالي، فإن نجاح هذه الخطة مرهون بقدرة أجهزة الدولة على التنفيذ بالكفاءة والوتيرة المطلوبة خلال فترة انتقالية محدودة.
يرتبط بذلك تحدٍ إداري وقانوني هو آلية تنفيذ الإخلاء ذاتها. ماذا لو حلّ موعد انتهاء العقد ولم تكن الدولة قد وفرت بعد المسكن البديل لبعض الحالات؟ القانون واضح في نصوصه، لكن التطبيق العملي قد يواجه عقبات إذا لم يتم التنسيق المسبق والترتيب المحكم لكل حالة
. لذا، على الجهات التنفيذية إعداد خطط تفصيلية مبكرة لحصر المستأجرين المستحقين للبدائل، وترتيب أولوياتهم بناءً على أوضاعهم الاجتماعية والصحية، والتواصل معهم بوضوح قبل الإخلاء بوقت كافٍ. كما أن القضاء قد يشهد بعض النزاعات خلال هذه المرحلة (رغم وضوح القانون) من قبل مستأجرين يحاولون الاعتراض أو المماطلة، مما يستدعي جهوزية المنظومة القضائية لحسم هذه المنازعات سريعًا منعًا لأي تعطيل غير مبرر لعملية إعادة التوازن المنشودة.
هناك أيضًا تحديات اقتصادية غير مباشرة قد تنشأ. منها احتمال ارتفاع عام في مستويات الإيجار بالسوق الحر نتيجة دخول آلاف الأسر الجديدة إلى سوق البحث عن سكن بعد خروجهم من الإيجارات القديمة، ما قد يزيد الطلب ويرفع الأسعار إن لم يتم ضخ معروض كافٍ من المساكن الجديدة. كذلك يُحذر بعض الخبراء من ازدهار ما يسمى ”السوق الموازية“ للعقارات – أي التعاملات غير الرسمية – كقيام بعض المستأجرين بتأجير وحداتهم القديمة من الباطن بأسعار أعلى خلال الفترة الانتقالية لتحقيق ربح سريع .
، أو لجوء البعض إلى ترتيبات التفافية لتجنب تطبيق القانون. هذه السلوكيات إن حدثت قد تُضعف من تأثير القانون الإيجابي وتستوجب مراقبة وتنظيمًا من الجهات المعنية (مثل تشديد العقوبات على المخالفات أو إطلاق حملات توعية وتحذير).
وأخيرًا، لا بد من الإشارة إلى التحدي السياسي والمجتمعي المرتبط برضا الجمهور عن نتائج هذا القانون. فرغم النية الحسنة والهدف النبيل بتحقيق العدالة للطرفين، قد يخلق القانون واقعًا جديدًا يحتاج لتقبل مجتمعي. نجاح هذه الخطوة التشريعية لن يُقاس بالنصوص وحدها – كما عبّر أحد خبراء التطوير العقاري – بل بقدرة الدولة على الموازنة بين الإصلاح الاقتصادي والعدالة الاجتماعية ضمن هذه الفترة الانتقالية القصيرة وفي سياق مجتمعي حساس
. فإذا تمكنت الدولة من تنفيذ القانون بروح من الحكمة والمرونة، ورافقت ذلك بحلول تكافلية (كالدعم المادي للمستحقين الحقيقيين من محدودي الدخل) وحملات توعية لشرح الحقوق والواجبات الجديدة لكل من المالكين والمستأجرين، فإن كثيرًا من المخاوف ستتلاشى تدريجيًا. أما إن تُركت الأمور دون متابعة حثيثة، فقد تتحول بعض المخاوف إلى واقع يخلق أزمة جديدة بدلًا من إنهاء الأزمة القديمة.
خاتمة وتوصيات عامة
يُمثّل قانون الإيجار الجديد رقم 164 لسنة 2025 نقطة تحول جوهرية في سوق العقارات المصرية، إذ أنهى أزمة تاريخية طالت لأكثر من سبعين عامًا، وشرع أبوابًا جديدة للتطوير والاستثمار العقاري. فمن الجانب الاقتصادي، يُتوقع أن يساهم القانون في تحرير القيمة الحقيقية للعقارات وتنشيط حركة السوق بعد رفع التشوهات السعرية التي خلفتها الإيجارات القديمة المجمدة. ومن الجانب القانوني–الاجتماعي، أرسى القانون مبدأ التوازن في العلاقة الإيجارية عبر حماية حقوق المالك وإنصافه بعدالة، وفي الوقت ذاته توفير شبكة أمان للمستأجرين بعدم تركهم دون بدائل. إن إعادة هيكلة العلاقة بين المالك والمستأجر بهذه الصورة المتوازنة ستعزز الثقة في القطاع العقاري، سواء لدى المستثمرين المحليين أو الأجانب، فوضوح القواعد واستقرارها عامل أساسي في جذب الاستثمار لأي سوق. كما أن استعادة الملاك لحقوقهم ستشجعهم على ضخ استثمارات لصيانة وتحديث ممتلكاتهم العقارية، مما ينعكس إيجابًا على المشهد العمراني للمدن المصرية ويطيل العمر الافتراضي للمباني التراثية القديمة.
مع كل هذه الآثار الإيجابية المنتظرة، تظل مسؤولية إنجاح القانون واقعة على عاتق جميع الأطراف ذات الصلة. فيما يلي بعض التوصيات العامة لضمان تحقيق أقصى استفادة من القانون وتفادي التحديات قدر الإمكان:
دور الحكومة: ينبغي على الجهات الحكومية المعنية الإسراع في وضع اللوائح التنفيذية التفصيلية وتوضيح إجراءات الإخلاء والتسكين البديل بشفافية. كما يتعين رصد الموارد اللازمة وتوفير التمويل الكافي لمشروعات الإسكان البديل ضمن خطط زمنية واضحة، مع مراقبة السوق لضبط أي ممارسات احتكارية أو ارتفاع غير مبرر في الإيجارات. كذلك يجب تكثيف حملات التوعية الإعلامية لتعريف المستأجرين والملاك بحقوقهم الجديدة وواجباتهم بموجب القانون، وتخصيص قنوات اتصال لاستقبال الاستفسارات والشكاوى ومعالجتها سريعًا.
دور المطورين العقاريين والمستثمرين: يُستحسن أن يتبنى المطورون رؤية استثمارية طويلة المدى تجاه الفرص التي يخلقها القانون. مثلاً، بدلاً من السعي لتحقيق ربح سريع فقط من خلال شراء العقارات القديمة وبيعها بعد إخلائها، يمكنهم الدخول في شراكات مع الملاك لتطوير تلك العقارات وتحويلها إلى مشاريع حديثة مربحة لجميع الأطراف. على المطورين أيضًا مراعاة البعد الاجتماعي في مشاريع التطوير (مثل الحفاظ على هوية الأحياء التاريخية وتأمين بدائل مقبولة للمستأجرين إن أمكن ذلك ضمن خطط التطوير). إن اتباع نهج تنموي مسؤول سيعزز سمعة القطاع الخاص ويساعد في كسب ثقة المجتمع المحلي.
دور الملاك والمستأجرين: بالنسبة للملاك، المطلوب هو الالتزام بروح القانون وعدم التعجل في إجراءات الإخلاء إلا وفق ما تسمح به الضوابط، مع البدء في التخطيط المبكر لكيفية استثمار عقاراتهم بعد استردادها (سواء بالتطوير أو البيع أو التأجير الحر بأسعار عادلة). وبالنسبة للمستأجرين، فإن الاستعداد المبكر أمر مهم؛ فعليهم متابعة الإجراءات الحكومية للحصول على السكن البديل إن كانوا من المستحقين، أو البحث عن خيارات سكنية أخرى خلال الفترة الانتقالية بدعم من برامج الدولة أو الأهل إذا تطلب الأمر. كما يجب أن يدرك الطرفان أن القانون قد صدر لتحقيق الصالح العام بتوازن، وأن التعاون والالتزام المتبادل سيجنب الجميع نزاعات لا طائل منها.
في المحصلة، يحمل قانون الإيجار الجديد في طياته فرصة تاريخية لإنعاش القطاع العقاري المصري وحل أزمة مزمنة بطريقة عادلة وشاملة. وإذا ما جرى تنفيذ بنود هذا القانون بحرفية وحس اجتماعي عالٍ، فمن المرجح أن نشهد دورة ازدهار عقاري تستفيد منها مختلف شرائح المجتمع: مالكون يستعيدون حقوقهم وينعشون أصولهم، مستأجرون ينتقلون إلى مساكن أفضل أو عقود أكثر عدالة، ومستثمرون يجدون سوقًا أكثر شفافية وجاذبية. إنها خطوة جريئة على طريق الإصلاح، والرهان الآن على قدرتنا جميعًا على إدارة التغيير بما يحقق الازدهار الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي المنشودين.

