المسؤولية القانونية والتعويض
يُعد التأخير في تسليم البضائع البحرية من أخطر المشكلات التي تواجه نشاط الشحن والاستيراد والتصدير. فالتأخير عن المواعيد المتفق عليها لتسليم البضائع قد يُسبب خسائر جسيمة لأصحاب البضائع، سواء من حيث فقدان قيمة السلع في السوق أو تعطّل خطوط الإنتاج. في هذه المقالة القانونية المتعمقة نستعرض مسؤولية الناقل البحري عن هذا التأخير وفقًا للقانون المصري وقواعد هامبورج الدولية، ونوضح الأساس القانوني للتعويض، مدعمًا بأمثلة قضائية عملية. كما نتطرق إلى عبء الإثبات وإجراءات إخطار الناقل بالضرر، وتحديد سقف التعويض عن التأخير وفق الاتفاقيات الدولية، ونختم بنصائح عملية من مكتب الدكتور مصطفى الروبي موجهة لكل من أصحاب البضائع والناقلين البحريين لضمان حماية مصالحهم.
مسؤولية الناقل البحري عن التأخير وفق القانون المصري وقواعد هامبورج
يُلزم القانون الناقل البحري بنقل البضائع وتسليمها في الموعد المحدد أو خلال مدة معقولة إذا لم يُحدد موعد صريح
وبموجب قانون التجارة البحرية المصري رقم 8 لسنة 1990 فإن الناقل يسأل قانونًا عن أي تأخير في تسليم البضائع ما لم يثبت أن التأخير يرجع إلى سبب أجنبي خارج عن إرادته ولا يد له فيه
بمعنى آخر، تقوم مسؤولية الناقل على أساس افتراض الخطأ عند وقوع التأخير، ولا يُعفى منها إلا إذا تمكن من إثبات وجود قوة قاهرة أو ظرف طارئ خارج عن نطاق سيطرته (مثل الظروف الجوية القاسية غير المتوقعة، أو إغلاق مفاجئ للموانئ، أو أوامر سلطات تمنع الإبحار حال دون التسليم في الموعد. وقد تبنّى المشرّع المصري في ذلك نهج اتفاقية الأمم المتحدة للنقل البحري للبضائع لعام 1978 (قواعد هامبورج)، التي نصّت بدورها على مسؤولية الناقل عن الضرر الناشئ عن التأخير في التسليم إذا وقع الحدث المسبب للضرر أثناء وجود البضائع في عهدته، ما لم يثبت الناقل أنه اتخذ كافة التدابير المعقولة لتفادي حدوث التأخير وآثاره
وتُعرف قواعد هامبورج “التأخير في التسليم” بأنه عدم تسليم البضائع في ميناء الوصول في المهلة المتفق عليها، أو خلال الزمن الذي يكون من المعقول أن يستغرقه ناقل بحري معتاد ومجتهد في الظروف المماثلة إذا لم يوجد اتفاق محدد. وقد اعتمد القانون المصري نفس المعيار فى المادة 240 من قانون رقم 8 لسنة 1990 الخاص بالتجارة البحرية وفقاً لآخر تعديل صادر
في 9 فبراير عام 2025 حيث يعتبر الناقل متأخرًا في التسليم إذا تجاوز الميعاد المتفق عليه أو الميعاد الذي يسلم فيه الناقل العادي البضاعة تحت نفس الظروف. لذلك فإن تحديد ما إذا كان هناك تأخير يُقاس بمعيار موضوعي هو أداء الناقل المعتاد الحريص، مع مراعاة طبيعة الرحلة وظروفها و جاء نص المادة 240 كالأتى :
(1) يسأل الناقل عن التأخير في تسليم البضائع إلا إذا أثبت أن التأخير يرجع إلى سبب أجنبي لا يد له فيه.
(2) ويعتبر الناقل قد تأخر في التسليم إذا لم يسلم البضائع في الميعاد المتفق عليه أو في الميعاد الذي يسلمها فيه الناقل العادي في الظروف المماثلة إذا لم يوجد مثل هذا الاتفاق.
(3) ولا يجوز أن يزيد مبلغ التعويض الذي يحكم به على الناقل في حالة التأخير في تسليم البضائع أو جزء منها على الحد الأقصى للتعويض المنصوص عليه في (الفقرة 1) من المادة 233 من هذا القانون.
(4) ولا تستحق أي تعويضات عن الضرر الناتج عن التأخير في تسليم البضائع إذا لم يخطر طالب التعويض الناقل كتابة بالتأخير خلال ستين يوما من تاريخ التسليم.
.
من المهم التنبيه إلى أنه لا يجوز للناقل البحري التحلّل تعاقديًا من مسؤولية التأخير. فقد أكدت محكمة النقض المصرية استنادًا لقواعد هامبورج بطلان أي شرط في عقد النقل البحري أو سند الشحن يعفي الناقل من المسؤولية عن التأخير في تسليم البضائع أو ينتقص من نطاق هذه المسؤولية مثل هذه الشروط تُعتبر لاغية لمخالفتها النظام العام، سواء وردت صراحة أو ضمنًا وكذلك لا يصح الاتفاق على تخفيض حدود المسؤولية القانونية للناقل عما هو مقرر في القانون أو الاتفاقيات الدولية بالتالي، مسؤولية الناقل عن التأخير قاعدة آمرة لا يمكن الاتفاق على ما يخالفها للإفلات من تبعات التأخير
عبء الإثبات وشروط إخطار الناقل بالضرر
ينقسم عبء الإثبات في دعوى التأخير في تسليم البضائع (دعوى تأخير تسليم البضائع) بين المرسل إليه (صاحب البضاعة) والناقل بشكل متدرّج. فعلى طالب التعويض (المدعي) ابتداءً إثبات وقوع التأخير الفعلي في التسليم وتحديد مقدار الضرر المادي الذي لحق به نتيجة هذا التأخير (مثل فَقدان السوق أو انخفاض قيمة البضاعة أو تكاليف تخزين إضافية). وبمجرد إثبات التأخير والضرر الظاهر المترتب عليه، تنتقل المسؤولية إلى الناقل لإثبات انتفاء الخطأ من جانبه. أي أنه على الناقل إثبات أن التأخير كان نتيجة سبب أجنبي لا يد له فيه أو أنه بذل العناية المعقولة لتفادي الضرر ولكنه وقع رغم ذلك فإذا عجز الناقل عن تقديم هذا الإثبات، تقررت مسؤوليته القانونية عن التأخير وما نجم عنه من أضرار.
من الناحية العملية، إثبات الضرر الناتج عن التأخير قد يتطلب تقرير خبير لتقييم الخسائر (كفرق السعر أو تلف البضاعة بسبب فوات ميعاد وصولها)، أو مستندات تجارية تثبت فوات فرصة بيع أو غرامات تكبّدها صاحب البضاعة بسبب التأخير. وبالمقابل، قد يدفع الناقل بأن الضرر لم ينجم عن التأخير نفسه بل عن عوامل أخرى (كعيب ذاتي في البضاعة أو تأخر الجمارك في الإفراج عنها)، وهذا يقع ضمن نطاق الدفع السببي الذي على الناقل إثباته.
أما إجراءات الإخطار بالضرر فهي خطوة جوهرية لضمان الحق في التعويض. يفرض القانون على المرسل إليه (أو صاحب الحق في البضاعة) إخطار الناقل كتابيًا بأي ضرر أو تلف ظهر على البضاعة عند التسليم خلال يوم العمل التالي لتسليم البضاعة إذا كان العيب ظاهرًا، أو خلال خمسة عشر يومًا من التسليم إذا كان الضرر غير ظاهر و هذا الإخطار الكتابي المبكّر يهدف إلى إثبات حالة البضاعة عند التسليم وتحميل الناقل علمًا فوريًا بالمشكلة. فإذا أخفق صاحب البضاعة في توجيه الإخطار خلال المواعيد القانونية دون عذر مقبول، اعتُبر تسليم البضاعة قرينة قانونية على أنها سلمت بحالة سليمة وفقًا لوصفها في سند الشحن وفي هذه الحالة ينتقل عبء إثبات وجود التلف أو الضرر وأنه وقع خلال فترة النقل البحري إلى عاتق صاحب البضاعة المتضرر، مما يصعّب موقفه في المطالبة بالتعويض و جاء نص المادة 239 متناولاً هذا الموقف الوارد و جاء نص المادى كالأتى :
(1) في حالة هلاك البضاعة أو تلفها يجب على من يتقدم لتسلمها أن يخطر الناقل كتابة بالهلاك أو التلف في ميعاد لا يجاوز يومي العمل التاليين ليوم تسليم البضاعة وإلا افترض أنها سلمت بحالتها المبينة في سند الشحن حتى يقوم الدليل على ما يخالف ذلك، وإذا كان الهلاك أو التلف غير ظاهر جاز تقديم الإخطار خلال الخمسة عشر يوما التالية لتسليم البضاعة.
(2) ولا يلزم تقديم الإخطار المنصوص عليه في الفقرة السابقة إذا أجريت معاينة للبضاعة وأثبتت حالتها وقت التسليم بحضور الناقل أو نائبه ومن تسلم البضاعة.
وبالنسبة لتأخير التسليم دون تلف مادي في البضاعة، أوجبت قواعد هامبورج والقانون المصري تبعًا لها إخطار الناقل كتابيًا أيضًا بالتأخير للمطالبة بالتعويض عنه. فقد قرر القانون المصري صراحة أنه “لا تستحق أي تعويضات عن الضرر الناتج عن التأخير في تسليم البضائع إذا لم يُخطر طالب التعويض الناقلَ كتابةً بالتأخير خلال ستين يومًا من تاريخ التسليم”. أي يتعيّن على صاحب البضاعة إشعار الناقل خلال 60 يومًا من استلامه البضاعة المتأخرة بأنه يعتبر نفسه متضررًا من التأخير وينوي المطالبة بتعويض. عدم القيام بهذا الإخطار خلال المهلة يُسقط حق المطالبة بالتعويض عن التأخير مهما ثبتت مسؤولية الناقل، وذلك لتفادي تفاجؤ الناقل بمطالبات متأخرة ولموازنة الحقوق بين الطرفين. لذا ينبغي على أصحاب البضائع أن يكونوا حريصين على توجيه إخطار التأخير خطيًا في الوقت المناسب (مثلاً عبر بريد مسجّل أو بريد إلكتروني موثّق) والاحتفاظ بما يثبت تسلّم الناقل لهذا الإخطار.
نشير أيضًا إلى أن قانون التجارة البحرية المصري جعل مدة التقادم للدعاوى الناشئة عن عقد نقل البضائع بالبحر (بما فيها دعوى التأخير) سنتين من تاريخ التسليم الفعلي أو التاريخ الذي كان يجب أن يتم فيه التسليم هذه المدة (المستمدة كذلك من قواعد هامبورج) تعتبر قصيرة نسبيًا، ما يستوجب على المضرور التحرك بسرعة وعدم التأخر في رفع الدعوى حفاظًا على حقوقه.
سقف التعويض القانوني عن التأخير في التسليم
على الرغم من ثبوت مسؤولية الناقل عن التأخير، إلا أن مقدار التعويض المحكوم به لا يُترك بلا حدود، بل يخضع إلى سقف قانوني حددته الاتفاقيات الدولية والتشريعات الوطنية. تهدف حدود المسؤولية هذه إلى إيجاد توازن بين مصالح الشاحنين والناقلين ومنع مطالبة الناقل بتعويضات فادحة لا تتناسب مع أجرة النقل.
فقًا لقواعد هامبورج 1978 التي تبنتها مصر، يُحدد التعويض عن الضرر الناتج عن التأخير في التسليم بما لا يجاوز مثلي ونصف (2.5 ضعف) أجرة النقل المستحقة عن البضائع التي وقع عليها التأخير وبصياغة أخرى، الحد الأقصى للتعويض عن التأخير هو 2.5 مرة قيمة الشحن المدفوعة لنقل تلك البضاعة المتأخرة، على ألا يتخطى هذا التعويض إجمالي أجرة النقل المستحقة بموجب عقد النقل البحري عن البضاعة ذاتها وقد أكدت محكمة النقض هذا المبدأ بنصها أن مسؤولية الناقل عن الخسارة الناتجة عن التأخير محددة بمبلغ يعادل 2,5 مثل أجرة النقل، دون أن يتجاوز مجموع هذه المسؤولية قيمة أجرة النقل المتفق عليها بأكملها بهذه الطريقة، يكون التعويض عن التأخير محدودًا بنطاق معقول يرتبط بتكلفة النقل، فلا يتحمّل الناقل مبالغ طائلة قد تفوق ما تلقاه من مقابل لنقل البضاعة.
وأما في حالة هلاك البضاعة أو تلفها (خسارة أو ضرر مادي للبضائع)، فإن سقف التعويض مختلف ويتم حسابه وفق معيار فقد حدّدت اتفاقية هامبورج (وكذلك المادة 233(1) من القانون المصرى تعويض الضرر المادي بواقع 835 وحدة حسابية من حقوق السحب الخاصة Special Drawing Rights (SDR)، وفقًا لطريقة التقويم التي يطبقها صندوق النقد الدولي، محولة إلى العملة الوطنية للدولة، عملًا بالمادة 26 من الاتفاقية، تبعًا لقيمة هذه العملة في تاريخ الحكم أو في التاريخ الذي تتفق عليه الأطراف – عن كل طرد أو وحدة شحن أخرى أو 5‚2 وحدة حسابية عن كل كيلوجرام من الوزن القائم للبضائع يهلك أو يتلف، أيهما أكبر يضمن تعويضًا معقولًا يتناسب عادةً مع قيمة البضاعة، لكنه في الوقت نفسه يضع سقفًا لمسؤولية الناقل. وجدير بالذكر أن قواعد هامبورج اشترطت كذلك ألا يتجاوز مجموع ما يُحكم به للمتعقد (صاحب البضاعة) عن التأخير مع أي تعويض آخر عن هلاك أو تلف نفس البضاعة الحدَّ الأقصى المنصوص عليه لهلاك تلك البضاعة كليًا معنى ذلك أنه لو تأخرت البضاعة وتعرضت في نفس الوقت لتلف جزئي، فإن إجمالي التعويض عن التلف والتأخير معًا لا يجوز أن يتخطى ما كان سيُحكم به لو أن البضاعة هلكت بالكامل. هذا الحكم يمنع المضرور من تجاوُز التعويض المستحق كأن البضاعة فُقدت تمامًا، ويحقق عدالة بأن لا يُعاقب الناقل بتعويضات تراكمية تفوق قيمة البضاعة ذاتها.
تجدر الإشارة إلى أن هذه الحدود القانونية للتعويض ليست مطلقة في كل الأحوال. فإذا ثبت أن الضرر (سواء من التأخير أو التلف) نشأ عن فعل أو امتناع متعمد من الناقل أو تابعيه بقصد إحداث الضرر، أو عن خطأ جسيم مقرون بإدراك أن ضررًا يمكن أن يحدث (أي غش أو تعمّد أو تهوّر شديد من جانب الناقل)، فإن الناقل يُحرم في هذه الحالة من حق التمسك بسقف المسؤولية المحدد قانونًا بعبارة أخرى، حالات سوء النية أو الخطأ الجسيم تُرفع فيها الحصانة عن الناقل ويُلزم بتعويض كامل الضرر دون التقيد بالحدود المذكورة. هذه القاعدة تشجع الناقلين على تفادي السلوك المتهور أو غير المبالي، وتضمن إنصاف صاحب البضاعة عندما يكون ضرره ناتجًا عن فعل فادح من جانب الناقل. كذلك، لا يُسمح للناقل بالاستفادة من حدود المسؤولية إذا قام بالتصرفات التي أوجب القانون اعتبارها دليلًا على سوء النية (مثل إصدار سند شحن خالٍ من التحفظات رغم وجود تلف ظاهر بالبضاعة بقصد الإضرار بالغير حسن النية) و جاءت المادة 241 تتحدث عن هذا الموقف حيث نص القانون على :
(1) لا يجوز للناقل التمسك بتحديد مسئوليته عن هلاك البضائع أو تلفها أو تأخير تسليمها إذا ثبت أن الضرر نشأ عن فعل أو امتناع صدر منه أو من نائبه أو من أحد تابعيه بقصد إحداث الضرر أو بعدم اكتراث مصحوب بإدراك أن ضررا يمكن أن يحدث.
(2) ويفترض اتجاه قصد الناقل، أو نائبه إلى إحداث الضرر في الحالتين الآتيتين:
( أ ) إذا أصدر سند الشحن خال من التحفظات مع وجود ما يقتضى ذكرها في السند وذلك بقصد الإضرار بالغير حسن النية.
(ب) إذا شحن البضائع على سطح السفينة بالمخالفة لاتفاق صريح يوجب شحنها في عنابر السفينة.
أمثلة قضائية وتطبيقات في المحاكم المصرية
انعكست الأحكام والقواعد المذكورة عمليًا في أحكام محكمة النقض المصرية والمحاكم الاقتصادية التي تختص بنظر منازعات النقل البحري. ففي السنوات الأخيرة، أكدت المحاكم على التزام الناقلين بتسليم البضائع دون تأخير غير مبرر، وألزمتهم بالتعويض في الحالات التي يثبت فيها تقصيرهم. نستعرض فيما يلي مثالًا واقعيًا من القضاء يوضّح كيفية تطبيق هذه المبادئ عمليًا:
قضية تأخير وتلف بضاعة في طعنٍ تجاري رقم 18493 لسنة 83 قضائية، صدر حكم عن الدائرة التجارية والاقتصادية بمحكمة النقض بتاريخ 23 سبتمبر 2021 يتعلق بشحنة تأخرت في الوصول وتعرّضت لتلف جزئي. تفاصيل الواقعة – وفق ما أورده حكم النقض – أن شركة نقل بحري تأخرت في نقل بضاعة تخص مستثمر (المرسل إليه) من ميناء الشحن إلى ميناء الوصول، مما أدى إلى تلف البضاعة بسبب تصلبها وفقدان صلاحيتها للاستعمال نتيجة طول مدة النقل. أقام صاحب البضاعة دعوى تعويض بمبلغ يُناهز 140,920 دولار أمريكي ضد شركة الملاحة الناقلة، مستندًا إلى أن التأخير في التسليم ألحق ضررًا بالغًا ببضاعته.
محكمة النقض لدى نظرها الموضوع ركّزت على عدة نقاط جوهرية تتعلق بتطبيق قواعد هامبورج والقانون المصري في مثل هذه النزاعات. أولًا، أكدت المحكمة المبدأ العام المتقدم ذكره وهو بطلان أي شرط يعفي الناقل من المسؤولية عن تأخير التسليم أو يحد منها، مشيرةً إلى نص المادتين 5 و23 من اتفاقية هامبورج اللتين تجعلان أي اتفاق يستبعد تطبيق الاتفاقية أو يعفي الناقل من المسؤوليّة عن هلاك البضائع أو تلفها أو التأخير في التسليم باطلًا مطلقًا لمخالفته للنظام العام ثانيًا، تناولت المحكمة شروط استحقاق التعويض وفق الاتفاقية، فشدّدت على ضرورة التزام المُرسل إليه بإخطار الناقل بالضرر خلال المواعيد المقررة؛ وتبيّن للمحكمة أن الحكم الابتدائي (وحكم الاستئناف) لم يبحث بشكل كاف ما إذا كان المدعي قد أخطر الناقل بعيب التلف الناجم عن التأخير في الميعاد المحدد أم لا فقد كان يتوجب على المحكمة أن تتحقق من تاريخ استلام المرسل إليه للبضاعة وتاريخ إخطاره الناقل بتضررها من التأخير، وما إذا كان الإخطار قد تم خلال مهلة الستين يومًا المنصوص عليها في الاتفاقية، لأن تخلف الإخطار في الميعاد يُرتب قرينة قانونية على أن الناقل سلم البضاعة بحالتها السليمة وينقل عبء الإثبات إلى المضرور لإثبات العكس عدم قيام المحكمة بهذا التحقق جعل حكمها
قاصر التسبيب في نظر محكمة النقض.
ثالثًا، أشارت محكمة النقض إلى وجوب التثبّت مما إذا كان سند الشحن أثبت طبيعة حالة البضاعة المشحونة (هل كانت سائلة أو صلبة مثلاً) لأن ذلك يؤثر في تقييم حدوث التلف بسبب التأخير ففي الواقعة محل النزاع كانت البضاعة عند الشحن بحالة سائلة وتم تسليمها في حالة متحجرة (صلبة)، وكان ينبغي التحقق من تسجيل حالتها الأصلية في سند الشحن لإثبات تغير حالتها عند التسليم. رابعًا، نبهت المحكمة إلى مبدأ مهم وهو منع الازدواج في التعويض أو ما يسمى بعدم جواز جمع التعويض والشيء معًا. فإذا كان صاحب البضاعة لا يزال يحوز البضاعة (وإن كانت متضررة) وانتفع بها بأي صورة، فلا يجوز أن يحصل على تعويض كامل قيمتها فوق ذلك وفي القضية المذكورة انتقدت محكمة النقض الحكم الابتدائي لأنه قضى للمدعي بتعويض يعادل كامل قيمة البضاعة دون أن يستجلِ ما آل إليه أمر البضاعة المتأخرة هل تم الانتفاع بها جزئيًا أو بيعها سلعًا تالفة مثلاً إذ إن بقاء البضاعة لدى المدعي أو انتفاعه بها قد يخفّض من مقدار الضرر المستحق التعويض كان على المحكمة أن تراعي هذا الأمر الجوهري في تحديد مدى الضرر وقيمته. وبإغفال تلك النقاط جميعًا، رأت محكمة النقض أن الحكم المطعون فيه شابهُ قصور في التسبيب وخطأ في تطبيق القانون، مما استوجب نقضه وإحالة القضية لمحكمة الاستئناف لإعادة النظر بهيئة مغاير.
يبرز هذا الحكم عدة مبادئ قضائية مهمة: وجوب الالتزام بإجراءات الإخطار ومواعيده الصارمة، ضرورة إثبات حالة البضاعة ووصفها في سند الشحن، أهمية التقيد بسقف التعويضات المنصوص عليها في قواعد هامبورج (حيث قضت المحكمة صراحةً بعدم جواز تعدّي التعويض عن التأخير الحد الأقصى المقرر قانونًا، وعدم جواز الجمع بين البضاعة وتعويضها تفاديًا للإثراء بلا سبب. كما أنه يُظهر حرص محكمة النقض على تطبيق قواعد هامبورج بوصفها جزءًا من القانون الواجب التطبيق في مصر على عقد النقل البحري الدولي، وعلى توحيد jurisprudence المحاكم الاقتصادية بشأن هذه المسائل لضمان العدالة والتوازن بين مصالح الشاحن والناقل.
وعمومًا، تتبنى المحاكم الاقتصادية في مصر وهي المختصة ابتدائيًا بنظر منازعات الشحن البحري نفس هذه الضوابط عند الفصل في دعاوى التأخير. فغالبًا ما تُلزم المحاكم الناقلين بتقديم ما لديهم من أدلة لإثبات أن التأخير كان خارجًا عن إرادتهم أو ناشئًا عن قوة قاهرة إن وُجدت، كما تتحقق بدقة من قيام أصحاب البضائع بالإخطارات الواجبة خلال المدد القانونية. وقد دأبت تلك المحاكم على احترام حدود المسؤولية والتعويض المقررة في القانون فلن يُحكم مثلًا لصاحب البضاعة بتعويضات تتجاوز ما يسمح به القانون حتى لو ثبت التأخير، إلا إذا تبيّن أن الناقل ارتكب غشًا أو خطأ جسيمًا كما أسلفنا. كذلك تراقب المحاكم مسألة التقادم، حيث يُرفض أي دعوى تأخير تسليم تُرفع بعد انقضاء سنتين على الواقعة وفق نص المادة 244 من قانون التجارة البحرية. كل ذلك يؤكد أن المنظور القضائي المصري متسقٌ مع قواعد إتفاقية هامبورج في توفير الحماية لأصحاب البضائع المتضررين من التأخير مع عدم إغفال حماية الناقلين ضمن الحدود المعقولة للمسؤولية.
نصائح عملية من مكتب الدكتور مصطفى الروبي لأصحاب البضائع والناقلين
ختامًا، وبناءً على خبرتنا العملية في قانون النقل البحري، يقدّم مكتب الدكتور مصطفى الروبي النصائح التالية لضمان حماية مصالح العملاء سواء كانوا من أصحاب البضائع أو الناقلين البحريين في مواجهة مشكلات تأخير التسليم:
نصائح لأصحاب البضائع (الشاحنين أو المستوردين): عليكم التخطيط المسبق للشحنات الحرجة زمنيًا والتأكد من إدراج مواعيد التسليم المتفق عليها بشكل واضح في عقود النقل البحري أو سندات الشحن. كما يُنصح بالحصول على تأمين مناسب يغطي مخاطر التأخير إن أمكن، خاصةً للشحنات عالية القيمة أو سريعة التلف. في حالة وقوع تأخير يفوق المعقول، بادروا فورًا إلى إخطار الناقل كتابيًا بالتأخير والأضرار المترتبة عليه خلال المهلة القانونية (60 يومًا) للحفاظ على حقكم في المطالبة يُستحسن توثيق كل ما يتعلق بالتأخير؛ احتفظوا بسجلات المراسلات مع الناقل، وأية إشعارات أو تحذيرات وردت منه بشأن ظروف قد تؤخر الرحلة. كذلك قوموا بفحص البضاعة عند وصولها وتأجير خبراء إذا لزم الأمر لإثبات أي تلف أو نقص بسبب التأخير. لا تترددوا في مطالبة الناقل بالتعويض المناسب (تعويض عن تأخير الشحن) عن أي خسارة مادية لحقتكم نتيجة التأخير، مع مراعاة سقف التعويض القانوني. وأخيرًا، تذكّروا أن أمامكم سنتين فقط لرفع الدعوى من تاريخ التسليم أو التاريخ المفترض للتسليم فاحرصوا على عدم تجاوز هذه المدة تفاديًا لسقوط حقكم.
نصائح للناقلين البحريين: يتعين على شركات الملاحة والخطوط الملاحية تنظيم جداول إبحار واقعية ومرنة تأخذ بالاعتبار هوامش زمنية لمواجهة الظروف الطارئة المحتملة، تفاديًا لوقوع التأخير قدر الإمكان. كما ننصح بتوثيق كل العوامل الخارجة عن الإرادة التي قد تسبب تأخيرًا (مثل حالات الطقس السيئ أو الأعطال المفاجئة أو التأخير في الموانئ) فور حدوثها وبشكل مفصّل، فهذا التوثيق سيكون بمثابة دليل إثبات مهم إذا اضطر الناقل إلى الدفاع عن نفسه في مواجهة دعوى تأخير. من المهم أيضًا إخطار عملائكم (أصحاب البضاعة) على وجه السرعة عند توقع أي تأخير جوهري في الوصول والشفافية في شرح أسبابه، فقد يساعد التواصل المبكر أحيانًا في تقليل الضرر أو في الوصول لتسويات ودية قبل تفاقم النزاع. ينبغي للناقل البحري التأكد من كفاءة السفينة وجاهزيتها فنياً قبل كل رحلة، والالتزام بواجب العناية بالبضاعة أثناء النقل لتجنب أي خطأ جسيم قد يُفقده حدود مسؤوليته القانونية. كما يمكن تضمين عقود النقل شروطًا تنظم حالة التأخير (مثل تعريف الظروف القهرية والمهل الإضافية المسموح بها) دون الإخلال بأحكام القانون الآمرة أي ليس بهدف نفي المسؤولية بالكامل بل لتنظيمها وتحديد الواجبات الإجرائية للطرفين عند وقوع تأخير. وأخيرًا، على الناقل الاستعانة بمشورة قانونية متخصصة عند وقوع حوادث تأخير أو تلقي مطالبات، وذلك للتعامل السليم معها ضمن الإطار القانوني؛ فقد يكون من المفيد السعي لتسوية ودية مع العميل المتضرر إذا كان التأخير لا نزاع فيه، تجنبًا للتقاضي الطويل وتقليلًا للكلفة والسمعة.
الخلاصة : إن التأخير في تسليم البضائع في النقل البحري قد يتحول إلى نزاع قانوني معقّد يشمل حسابات دقيقة للمسؤولية والتعويض. لذلك يُعتبر الوعي بهذه الأحكام من قبل شركات الشحن وأصحاب البضائع على حد سواء أفضل وسيلة لتفادي المخاطر. يضع القانون واجبات واضحة على الناقل البحري ويكفل حقوقًا مهمة لأصحاب البضائع، ولكن الامتثال للإجراءات (كالإخطار خلال المهل) والإلمام بالحدود القانونية للتعويض هي أمور حاسمة لنجاح أي مطالبة. نحن في مكتب الدكتور مصطفى الروبي على أتم استعداد لتقديم المشورة والمساعدة القانونية المتخصصة في منازعات الشحن البحري، لضمان تحقيق أفضل حماية لمصالح عملائنا وتفادي الوقوع في أخطاء إجرائية قد تُضيّع الحقوق. الخبرة القانونية البحرية إلى جانب الإجراءات الاستباقية في التوثيق والإخطار هي طوق النجاة لتجاوز آثار التأخير في عالم الشحن البحري سريع الوتيرة.
