دراسة قانونية فى العيد القومي للإسكندرية
قدر الإله لي أن أكون من المحظوظين من قاطني مدينة الإسكندرية العريقة وهي واحدةً من أقدم المدن على شاطئ البحر المتوسط، ومن أكثرها ثراءً بالتاريخ والمعالم الثقافية. فهذه المدينة العريقة، التي تأسست في القرن الرابع قبل الميلاد، لم تكن مجرد ميناء بحري؛ بل كانت بوتقة حضارات امتزج فيها الفرعوني باليوناني والروماني، ثم الإسلامي والعثماني. وفى كل مرحلة تاريخية اكتسبت المدينة ملامح معمارية وثقافية جديدة حتى باتت عنوانًا للتنوع، والخصوصية، والتحضر. ومع ذلك، فإن تسارع وتيرة التوسع العمراني والضغوط الاقتصادية والاجتماعية الحديثة يهدد هذه الهوية بالاندثار إذا لم يُحاط بقانون رادع وسياسات واعية. في مقال نشرته بوابة أخبار اليوم بعنوان “كيف يحمي القانون هوية الإسكندرية من الاندثار؟”، سلط الدكتور مصطفى الروبي – الخبير القانوني والمحامي لدى مكتب الدكتور مصطفى الروبي – محامون .مستشارون – الضوء على الدور المحوري للتشريعات في حماية التراث السكندري. وذلك في المقال التي نشرته جريدة أخبار اليوم الإلكترونية بعددها الذي نشر بتاريخ : 22/7/2025 فى عيد الإسكندرية القومى دكتور مصطفى الروبى يكتب فى #جريدةـأخبارـاليوم ..كيف يحمى القانون هوية الإسكندرية من الإندثار ؟ .. وتستند الدراسة الحالية إلى هذا المقال، مع توسع وتحليل قانوني مفصل يهدف إلى تقديم مرجع قانوني يستفيد منه المتخصصون والجمهور على حد سواء.
الإسكندرية والاحتفال بالعيد القومي
يوافق العيد القومي للإسكندرية يوم السادس والعشرين من يوليو كل عام، وهو ذكرى خروج آخر جندي بريطاني من المدينة عام ألف وتسعمائة وستة وخمسين عقب العدوان الثلاثي. ويعبر هذا اليوم عن انتصار السيادة الوطنية واستعادة الكرامة، كما يرمز إلى التلاحم بين أهل الإسكندرية وتراثهم العريق. في هذا السياق، يؤكد الدكتور مصطفى الروبي أن الاحتفال السنوي ليس مجرد تذكير بتاريخ المدينة النضالي، وإنما فرصة للتذكير بأهمية صون هوية الإسكندرية وخصوصيتها المعمارية والثقافية. هذه المناسبة تلقي الضوء على دور القانون في تعزيز الانتماء الوطني وتثبيت معالم المدينة التاريخية في الذاكرة الجمعية.
هوية الإسكندرية مزج الحضارات وتنوع الثقافات
تتميز الإسكندرية بتشابك عناصر ثقافية ومعمارية متعددة. فالمباني القديمة في حي الجمرك واللبان ورأس التين تحكي قصصًا عن عصور مختلفة؛ حيث تبرز تأثيرات العمارة الإيطالية واليونانية في شرفاتها وعقودها، إلى جانب الطراز العربي والإسلامي الذي يطغى على المساجد والأسواق القديمة. تنعكس هذه التنوعات في الممارسات الشعبية أيضًا؛ فهناك لغات ولهجات تعكس مساحات التلاقي بين أهل المدينة والسكان الوافدين، فضلاً عن المأكولات والموسيقى المحلية التي تمنح السكندريين حسًا خاصًا بالانتماء. لكن هذه الهوية المميزة أصبحت مهددة بفعل التغيرات الاقتصادية والسكانية، وسيطرة نماذج البناء الحديثة التي لا تراعي الطابع التاريخي. لذا تُعد حماية التراث قضية قانونية وثقافية في آن واحد.
القانون وضرورته فى حماية الهوية
يشير المقال المنشور في بوابة أخبار اليوم إلى أن الحفاظ على هوية الإسكندرية ليس مسؤولية ثقافية فحسب بل هو مسؤولية قانونية ومجتمعية. فالقانون هو الأداة التي تنظم عملية الترميم، وتمنع الهدم العشوائي، وتفرض معايير للبناء الجديد لضمان انسجامه مع السياق التاريخي للمدينة. وبدون هذه الضوابط، يمكن أن تتحول الإسكندرية إلى مدينة بلا ملامح، تُهدم فيها البيوت التراثية لبناء أبراج سكنية أو تجارية دون اعتبار لتاريخ المكان. وعليه، لابد من النظر إلى القانون باعتباره خط الدفاع الأول عن الموروث الحضاري.
القوانين الوطنية لحماية التراث المعماري
قانون تنظيم هدم المباني غير الآيلة للسقوط والحفاظ على التراث المعماري
أصدر المشرع المصري هذا القانون لتنظيم عمليات الهدم أو الإضافة للمباني والمنشآت ذات الطراز المعماري المتميز، ومنع العبث بالعقارات المرتبطة بالتاريخ القومي أو بالشخصيات التاريخية أو التي تمثل حقبًا تاريخية مميزة. وتكمن أهمية هذا القانون في أنه يُخضع أي قرار بالهدم أو التعديل للمراجعة والموافقة من لجنة تشكل بقرار من المحافظ ومؤسسات الثقافة والإسكان. كما يحظر القانون إصدار ترخيص بالهدم إلا بعد التحقق من أن المبنى غير مصنف ضمن قائمة المباني التراثية.
ينص القانون على تشكيل لجان متخصصة في كل محافظة تقوم بحصر المباني ذات القيمة المعمارية والتاريخية وإدراجها في قوائم رسمية. وتحدد اللائحة التنفيذية آليات عمل اللجان والسجلات اللازمة، بما في ذلك معايير التعويض للمالك في حال رفض طلب الهدم. كما يبيح للدولة القيام بعمليات ترميم وصيانة لهذه المباني على نفقتها إذا استدعى الأمر، بما يضمن بقاءها وتجنب انهيارها. هذا الإطار التشريعي يعد خطوة محورية في حماية الهوية البصرية للمدينة وضمان عدم هدم التراث تحت ضغط المصالح الاقتصادية.
قانون حماية الآثار
يعد قانون حماية الآثار من أهم التشريعات المصرية المعنية بصون التراث الأثري والحضاري. ينص القانون على أن الدولة ملزمة بحماية الآثار ورعاية مناطقها وصيانتها وترميمها، ويجرم الاعتداء على الآثار أو تهريبها. كما يعرف الأثر بأنه كل عقار أو منقول نتج عن الحضارات المختلفة أو أحدثته الفنون والعلوم والآداب والأديان عبر العصور. ويعاقب القانون من يقوم بالحفر الأثري دون ترخيص أو يسرق الآثار بالسجن والغرامة.
يمثل هذا القانون حماية مزدوجة للهوية السكندرية: فهو من جهة يمنع إتلاف المعالم الأثرية داخل المدينة، ومن جهة أخرى يعاقب على التنقيب غير الشرعي الذي يتسبب في تفريغ الأرض من كنوزها التاريخية. وبالتالي فهو يضمن أن تبقى الآثار مصدر فخر وتعلم للأجيال القادمة.
قوانين أخرى ذات صلة
إلى جانب القانونين السابقين، توجد قوانين تنظم عملية البناء والتخطيط العمراني مثل قانون البناء الموحد ولائحته التنفيذية، والتي تفرض اشتراطات على ارتفاعات المباني وألوان الواجهات ومواد البناء في المناطق ذات القيمة التاريخية، لضمان انسجامها مع المشهد العام. كما أن لائحة الإعلانات واللافتات تشترط الحصول على ترخيص لإقامة إعلانات أو لافتات تجارية، مع التقيد بحجم وتصميم ينسجم مع الطابع المعماري للحي، للحفاظ على المشهد البصري العام. هذه التشريعات مجتمعة تمثل منظومة قانونية تسهم في حماية هوية الإسكندرية.
الإدارة المؤسسية: الجهاز القومي للتنسيق الحضاري ومبادرات حماية التراث
منذ إنشاء الجهاز القومي للتنسيق الحضاري التابع لوزارة الثقافة، أصبح لهذا الجهاز دور كبير في التنسيق بين الجهات الحكومية والمنظمات الأهلية للحفاظ على التراث العمراني في مصر. ففي إطار مبادرة «حكاية شارع»، يعمل الجهاز على توثيق أسماء الشوارع المرتبطة بشخصيات أو أحداث تاريخية، وتوفير لوحات تعريفية لها تحتوي على شرح مختصر وقيمة تاريخية، واستخدام رمز الاستجابة السريع لتمكين المواطنين والزوار من معرفة تاريخ الشارع بسهولة. هذا المشروع الذي ينفذ في الإسكندرية يهدف إلى تعزيز الوعي بالتراث غير المادي، وربط المواطنين بتاريخ الشوارع التي يسكنون فيها، وتأكيد الانتماء الثقافي.
يمتد دور الجهاز إلى التنسيق مع المحافظات لإزالة التشوهات البصرية، مثل الإعلانات العشوائية أو ألوان الواجهات غير المناسبة. كما يقوم بإعداد قوائم بالأحياء والمباني التي تحتاج إلى تطوير أو ترميم، ووضع إرشادات للحفاظ على الطابع المعماري المميز لكل منطقة. هذه الإجراءات المؤسسية تساعد على ضمان التطبيق الفعلي للقوانين وعدم تركها حبراً على ورق.
التخطيط العمراني والحفاظ على الطابع السكندري
واحدة من أهم أدوات حماية الهوية تتمثل في سياسات التخطيط العمراني الرشيد. فمع تزايد الطلب على المساكن والخدمات، قد تتعرض المباني التراثية لخطر الهدم أو التعديل تحت ضغط السوق العقارية. لذلك، ينبغي أن تتضمن المخططات العمرانية اشتراطات واضحة، منها تحديد الارتفاعات المناسبة للمباني في المناطق التاريخية، وتقييد استخدام مواد البناء التي تفسد المظهر العام، ومراعاة توزيع الكثافة السكانية بحيث لا يتم الضغط على البنية التحتية للمدينة.
تشدد اللوائح على ضرورة أن تتواءم الأبنية الجديدة مع السياق التاريخي من حيث اللون والشكل والزخارف، وأن يخضع أي تغيير في الواجهة للمراجعة الفنية من الجهات المختصة. كما يحظر القانون إقامة أبراج زجاجية ضخمة في مناطق مثل المنشية أو بحري لأنها تعكس هوية مختلفة عن الطابع التاريخي. وإلى جانب ذلك، يجب توفير مساحات خضراء وحدائق عامة تحافظ على التوازن البيئي وتُعطي المدينة طابعها الجمالي.
حماية الهوية الثقافية واللغة
لا تقتصر الهوية على الحجر والمباني، بل تمتد إلى اللغة والعادات والتقاليد. لذا يتعين سن التشريعات التي تدعم المؤسسات الثقافية وتشجع على الأنشطة التي تحيي التراث المحلي. فمن خلال المسارح والمتاحف وبيوت الثقافة، يمكن توثيق اللهجات السكندرية والموسيقى الشعبية وحفظها من الاندثار. وينبغي إدراج التراث السكندري في المناهج التعليمية لتعريف الطلاب بتاريخ مدينتهم وأهميتها. كما يجب توفير الدعم للمهرجانات الثقافية التي تحتفل بمأكولات المدينة وأزيائها وأغانيها، لأنها تعزز الانتماء وتُبقي الهوية نابضة بالحياة.
في هذا الصدد، يوفر القانون إطارًا لتشجيع إنشاء الجمعيات الأهلية المعنية بالحفاظ على التراث، ومنحها صفة النفع العام لتسهيل حصولها على التمويل، وتقديم حوافز ضريبية للقطاع الخاص الذي يدعم المبادرات الثقافية. بهذه الأدوات، تتحول حماية الهوية من مجرد نص قانوني إلى ممارسة يومية يدعمها المواطنون والدولة.
التحديات الحالية والضغوط الاقتصادية
رغم وجود الأطر القانونية والمؤسساتية، تواجه الإسكندرية تحديات عديدة تهدد هويتها. فالزيادة السكانية المستمرة تؤدي إلى ضغوط على الأراضي وخدمات البنية التحتية، مما يدفع بعض المستثمرين لتشييد مبانٍ ضخمة على حساب المنازل التاريخية. كما أن التغيرات الاقتصادية قد تجبر المالكين على بيع ممتلكاتهم التراثية أو تحويلها إلى استخدامات تجارية لا تتوافق مع قيمتها التاريخية. هذا بالإضافة إلى تأثير التغير المناخي على المدن الساحلية، حيث يهدد ارتفاع منسوب البحر المناطق المنخفضة في الدلتا ويستلزم خططًا فورية للتكيف.
مواجهة هذه التحديات تتطلب إرادة سياسية حاسمة وتعاونًا بين القطاع العام والخاص والمجتمع المدني. وينبغي تخصيص ميزانيات كافية لصيانة المباني التراثية، وتقديم حوافز مالية لأصحاب العقارات للحفاظ على أملاكهم وعدم هدمها. كما يجب مراقبة تنفيذ القوانين على أرض الواقع ومعاقبة المخالفين، حتى لا تصبح النصوص القانونية مجرد توصيات.
دور المجتمع المدني
تلعب منظمات المجتمع المدني دورًا أساسيًا في الدفاع عن هوية الإسكندرية. فهي تنظم حملات للتوعية بأهمية الحفاظ على المباني القديمة، وترصد محاولات الهدم أو التعديل غير القانوني، وتضغط على المسؤولين للتدخل. كما تقيم ندوات ومعارض فنية تعيد تقديم التراث بطرق مبتكرة. ويمكن لهذه المنظمات التعاون مع المدارس والجامعات لتشجيع البحوث والمشاريع الطلابية المتعلقة بتاريخ المدينة وحضارتها. دعم هذه الجهود يعزز قدرة المجتمع على المشاركة في حماية الهوية.
دور مكتب الدكتور مصطفى الروبي – محامون ومستشارون
من خلال عمله في مجال المحاماة والاستشارات القانونية، يؤكد الدكتور مصطفى الروبي على أهمية الالتزام بالقوانين المنظمة لحماية التراث، ويرى أن دور مكتب المحاماة لا يقتصر على المرافعات القضائية، بل يمتد إلى توعية المجتمع بأهمية القوانين وتقديم الاستشارات للمستثمرين والمطورين العقاريين لضمان توافق مشروعاتهم مع التشريعات. سبق للمكتب أن تناول في مقالات سابقة موضوع حماية التراث والهوية الثقافية، كما شارك في ندوات تهدف إلى شرح القانون رقم مئة وأربعة وأربعين لسنة ألفين وستة وقانون حماية الآثار ومختلف اللوائح المتعلقة بالتنسيق الحضاري.
يعمل المكتب على تقديم الدعم القانوني للمواطنين الذين يرغبون في تسجيل منازلهم ضمن قوائم المباني التراثية، ويقوم بإعداد دراسات قانونية للمشروعات العمرانية المقترحة في المناطق التاريخية، لضمان احترام قوانين التراث والحفاظ على الطابع المعماري. كما يساهم في صياغة عقود تضمن التزام المتعاقدين بعدم الإضرار بالمعالم التراثية، ويوفر تدريبًا للمحامين الشبان حول كيفية التعامل مع قضايا التراث وإجراءات الطعن على قرارات الهدم غير المبرر. هذه الأنشطة تسهم في ترسيخ ثقافة قانونية تحمي هوية الإسكندرية وتساند جهود الدولة في هذا المجال.
الالتزامات الدولية ودور الاتفاقيات العالمية
تتخطى حماية التراث الحدود المحلية لتتصل بالتزامات مصر الدولية. فمعاهدة اليونسكو لحماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي لعام ألف وتسعمائة واثنين وسبعين تحث الدول على حماية المواقع ذات القيمة العالمية، وتسهم في إدراج مواقع مصرية ضمن القائمة العالمية. كما أن اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي لعام ألفين وثلاثة تدعو الدول إلى حماية أشكال التعبير التقليدية والمعارف الشعبية. إدراج الإسكندرية ضمن قوائم التراث المعنوي يتطلب تبني برامج توثيق ودعم لنقل المعرفة عبر الأجيال. لذلك، يجب على المشرع المصري ضمان اتساق القوانين الوطنية مع هذه الاتفاقيات وتقديم تقارير دورية عن الجهود المبذولة.
الخاتمة
مستقبل المدينة بين حماية التراث والتنمية
الإسكندرية ليست مجرد مدينة ذات شواطئ جميلة؛ إنها سجل حي للتاريخ المصري والعالمي. والحفاظ على هويتها المعمارية والثقافية ليس فقط وفاء للماضي، بل استثمار للمستقبل. من خلال القوانين التي تنظم هدم المباني التراثية وتحدد شروط البناء، وقانون حماية الآثار، ومبادرات الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، تتوافر أدوات فعالة يمكن توظيفها لصون التراث. غير أن نجاح هذه الأدوات يعتمد على التنفيذ الفعلي والتعاون بين جميع الأطراف.
يذكرنا العيد القومي للإسكندرية بأن السيادة على الأرض ترتبط بالقدرة على حماية معالمها التاريخية، وأن التخلي عن الهوية الثقافية قد يؤدي إلى فقدان روح المكان. لذا، يجب أن يكون الحفاظ على الهوية السكندرية سياسة عامة تشارك فيها الدولة بمؤسساتها التشريعية والتنفيذية، والمجتمع المدني، والقطاع الخاص، والأفراد. ومن هذا المنطلق، يؤكد مكتب الدكتور مصطفى الروبي – محامون . مستشارون التزامه بمواصلة الدفاع عن التراث، وتقديم المشورة القانونية للمواطنين والمؤسسات، والمشاركة في نشر الوعي بالقوانين ذات الصلة.
إن حماية الإسكندرية ليست مهمة جيل واحد، بل هي أمانة تتوارثها الأجيال، تضمن بقاء المدينة كما عرفها التاريخ، وكما ينبغي أن تعرفها الأجيال القادمة. هذا الدور لا يتحقق إلا في ظل دولة قانون قوية، تحترم التاريخ، وتتصالح مع الحداثة، وتوظف القوانين والتشريعات لتحقيق تنمية مستدامة تحافظ على روح المدينة وتضمن مستقبلها.
