في السنوات الأخيرة، أصبح العالم يتجه بخطى ثابتة نحو أنظمة عدالة أكثر إنسانية وتوازنًا، لا تُقاس بالكيلوجرامات من العقوبات بل بمدى تحقيق العدالة الاجتماعية والتأهيل النفسي للطرفين: الجاني والمجني عليه. وفي قلب هذا التحوّل، تبرز الوساطة الجنائية كإحدى أدوات العدالة التصالحية، والتي تمثل تحولًا نوعيًا في الفكر الجنائي المعاصر.
في مصر، لم تعد فكرة الوساطة مجرد مصطلح نخبوي يتردد في المؤتمرات الأكاديمية، بل بدأت تفرض نفسها تدريجيًا على طاولة النقاش التشريعي، خاصةً في ظل رد رئيس الجمهورية لمشروع قانون الإجراءات الجنائية مؤخرًا، وما صاحب ذلك من دعوات لإعادة النظر في الآليات التي تحقق عدالة ناجزة ومتوازنة. هذا الحدث يفتح المجال لتأمل أعمق في طبيعة العدالة التي ننشدها، وما إذا كان النظام العقابي التقليدي وحده كافيًا لتحقيق الردع والإصلاح معًا.
الوساطة الجنائية هي إجراء قانوني يتم خارج إطار المحاكمة الجنائية التقليدية، يُدار بمساعدة طرف ثالث محايد، يُسهم في التفاوض بين الجاني والمجني عليه للتوصل إلى حل يرضي الطرفين، وغالبًا ما يكون ذلك تعويضًا ماديًا أو اعتذارًا رسميًا أو التزامًا سلوكيًا من الجاني. هذا المفهوم ليس غريبًا على الثقافة المصرية، إذ أن الصلح والعُرف والعرفان كلها مفاهيم شعبية تعكس روح العدالة التصالحية منذ زمن بعيد. ما تغير اليوم هو السعي لإدماج هذه المفاهيم داخل النظام القضائي الرسمي، ليصبح للوساطة سند قانوني ومنهج إجرائي واضح ومحدد.
عندما أعاد الرئيس السيسي مشروع القانون إلى البرلمان، لم يكن ذلك اعتراضًا على مبدأ التحديث في حد ذاته، بل كان رسالة واضحة مفادها أن العدالة لا تُبنى على عجالة، وأن حماية الحقوق والحريات يجب أن تكون في صلب أي تطوير تشريعي. من بين ما أُثير في أسباب الإعادة كان هناك قلق من ضعف الضمانات القانونية أثناء إجراءات التفتيش والضبط، وعدم وضوح آليات بدائل الحبس الاحتياطي، وهو ما يُعَدّ مدخلًا مباشرًا لتفعيل الوساطة كأداة بديلة. كما أن إدخال تقنيات حديثة مثل المحاكمة عن بُعد دون ضمان كافٍ للحقوق الأساسية أثار تساؤلات حول مدى جاهزية المنظومة لاستيعاب هذه التحولات. الأهم من ذلك كان إهمال بعض الآليات التصالحية التي يمكن أن تخفف العبء عن كاهل القضاء وتحقق استقرارًا اجتماعيًا أسرع وأكثر فاعلية.
هذه الملاحظات تفتح الباب لتساؤل جوهري حول ما إذا كان قد حان الوقت لتقنين الوساطة الجنائية بشكل صريح وواضح في قانون الإجراءات الجنائية المصري. المحاكم الجنائية في مصر، لا سيما محاكم الجنح، تُعاني من التكدّس والضغط المتزايد، والوساطة تُعدّ وسيلة فعالة لإنهاء آلاف القضايا البسيطة دون الحاجة لإجراءات طويلة ومعقدة تستنزف الوقت والموارد. كما أن كثيرًا من المجني عليهم يبحثون عن رد اعتبار أو تعويض سريع وعادل أكثر من رغبتهم في سجن الجاني، والوساطة تُحقق لهم هذا بشكل مباشر دون المرور بمتاهات التقاضي.
من جهة أخرى، فإن بعض الجناة، خاصة من الأحداث أو غير المعتادين على الإجرام، يُمكن أن تُجنّبهم الوساطة دخول السجن، مما يُقلل من معدلات العود للجريمة ويُساعد على إعادة دمجهم في المجتمع بشكل صحي وبناء. هذا الأمر له أهمية كبرى في منع تحول المخالفين البسطاء إلى مجرمين محترفين بسبب اختلاطهم بعناصر إجرامية داخل أسوار السجون.
علاوة على ذلك، فإن الاستفادة من التراث القانوني والديني في مصر تُضفي على الوساطة شرعية ثقافية واجتماعية. في الشريعة الإسلامية هناك مفهوم راسخ يؤكد أن الصلح خير، وفي القانون المصري تقنين واضح للصلح في بعض القضايا، مثل الشيكات والسب والقذف. الوساطة الجنائية تأتي لتوسيع هذا المفهوم ليشمل مزيدًا من الجرائم التي لا تمس بشكل مباشر السلم العام أو الأمن القومي.
رغم كل هذه المزايا، لا تزال الوساطة تواجه عددًا من العقبات القانونية والإجرائية التي تحول دون تطبيقها الفعلي. أبرز هذه العقبات هو غياب نصوص صريحة في قانون الإجراءات الجنائية تُنظم الوساطة وتُحدد آلياتها وشروطها بوضوح. كما أن هناك نقصًا واضحًا في الكوادر المؤهلة للقيام بدور الوسيط المحايد وفق المعايير الدولية، وهو ما يتطلب برامج تدريبية متخصصة وشاملة. أضف إلى ذلك محدودية وعي النيابة العامة والمحامين بأهمية هذا الخيار، مما يجعله مغفولًا عنه في أغلب القضايا التي كان يمكن أن تستفيد منه. هناك أيضًا خوف مشروع من إساءة استخدام الوساطة في قضايا خطرة أو تمس السلم العام، وهو ما يستدعي وضع ضوابط صارمة تحدد نطاق تطبيقها. وأخيرًا، فإن غياب إطار رقابي يضمن نزاهة وحياد العملية التفاوضية قد يُعرّض الوساطة لانتقادات حول عدالتها وشفافيتها.
لكي تتحول الوساطة من فكرة نظرية إلى واقع عملي ملموس، يجب أن يتضمن مشروع قانون الإجراءات الجنائية الجديد نصوصًا واضحة تُجيز الوساطة في أنواع معينة من الجرائم، وخاصة الجنح والجنح المشددة، مع الحرص على عدم المساس بجرائم العنف الأسري أو الأمن القومي أو الجرائم الخطرة. يجب أيضًا وضع إجراءات قانونية دقيقة لضمان موافقة الطرفين بحرية ووعي كاملين، دون أي ضغوط أو إكراه. من الضروري كذلك تحديد الجهة المختصة بالإشراف على الوساطة، سواء كانت النيابة العامة، أو جهة مستقلة، أو مراكز معتمدة متخصصة. وينبغي أن يكون هناك ترتيب قانوني واضح لنتائج الوساطة، مثل إسقاط الدعوى، أو وقف التنفيذ، أو تخفيف العقوبة، بما يضمن احترام إرادة الأطراف وحقوقهم. كما يجب إنشاء سجل رسمي للوسطاء المعتمدين وتدريبهم بشكل دوري على الأصول القانونية والأخلاقية لعملهم.
من الضروري أيضًا إدراج فصل مستقل ومتكامل عن الوساطة الجنائية داخل قانون الإجراءات الجنائية، بحيث يتم تنظيم كافة جوانبها بشكل شامل ومفصل. يجب أن يترافق ذلك مع جهود توعية مكثفة للقضاة والنيابة العامة والمحامين بأهمية الوساطة وآليات تفعيلها العملية. هذه التوعية ضرورية لتغيير الثقافة القانونية السائدة التي تركز بشكل أساسي على العقوبة دون النظر إلى البدائل الممكنة. إطلاق حملات توعية مجتمعية واسعة أمر لا غنى عنه لطمأنة المواطنين من أن الوساطة لا تعني الإفلات من العقاب، بل هي وسيلة لتحقيق العدالة بطرق غير تقليدية لكنها أكثر فاعلية في كثير من الحالات.
التعاون مع منظمات المجتمع المدني في إنشاء مراكز وساطة مستقلة، خاصة في قضايا الأحداث أو النزاعات الأسرية، يمكن أن يُساهم بشكل كبير في نجاح هذه التجربة. هذه المراكز يمكن أن تكون بمثابة حلقة وصل بين القضاء والمجتمع، وتوفر بيئة محايدة وآمنة للتفاوض والحوار. من المهم أيضًا التدرّج في التطبيق، بحيث يتم البدء في محافظات نموذجية لتقييم التجربة وتحديد نقاط القوة والضعف، ثم تعميمها تدريجيًا على نطاق وطني بعد التأكد من فاعليتها وملاءمتها للسياق المصري.
إن إدماج الوساطة الجنائية في النظام القضائي المصري لا يعني بأي حال التهاون مع الجريمة أو التقليل من خطورتها، بل هو دليل واضح على نضج الدولة واستيعابها العميق لحقيقة أن العدالة لا تتحقق بالعقوبة فقط، وإنما بالمصالحة، والتعويض، والتأهيل، والتفاهم، وإعادة البناء. رد الرئيس لمشروع قانون الإجراءات الجنائية ليس نهاية الطريق، بل هو بداية لحوار تشريعي أكثر عمقًا وشمولية، ولعل الوساطة الجنائية تكون من أبرز ملامح هذا المستقبل الذي تتوازن فيه الحقوق مع الواجبات، والعقوبة مع الإصلاح، والردع مع الرحمة، في منظومة عدالة متكاملة تُراعي كرامة الإنسان وتسعى لبناء مجتمع أكثر استقرارًا وتماسكًا.
ونصيحتي لزملائي و مكاتب المحاماه : إذا كنتم جادون في البحث عن آلية فعالة لتسوية النزاعات الجنائية البسيطة بطرق أكثر سرعة وإنصافًا، فإن الوساطة الجنائية ستكون إحدى الأدوات المهمة في المستقبل القريب. استعدوا لها بفريق مؤهل، ووعي قانوني عميق.

